مفهوم الشك المنهجي

يحظى الشك في الفلسفة بمكانة مهمة، وتشير إحدى التعريفات إليه في السياق الفلسفي على أنه "موقفٌ عقلي"، يتوصل إليه الفرد بعد طول تدبرٍ وعمق تفكير، ولا يكون هذا الفرد جاهلاً بما يشك فيه، ولكنه يختار التردد بين "نقيضين"، بمحض اختياره، ويُقصد بهذا التردد بين النقيضين أن يقف بين أمرين، دون أن ترجح كفة عقله لأحدهما دون الآخر، ودون أن يصدر أحكامه عليهما؛ رفضًا أو قبولاً، وبالنسبة لأنواع الشك، فهما نوعان: يتمثل الأول في الشك المذهبي، في حين يتمثل الثاني في الشك المنهجي، وبالنسبة للشك المذهبي، فهو يُعرف على أنه شكٌ حقيقي، يتسم بأنه مطلقٌ وهدّام، وتكون الغاية منه الشك فقط، أما الشك المنهجي، فهو على العكس منه؛ إذ يُهدف منه إلى الوصول إلى اليقين والمعرفة بشكلها الحقيقي، ويُعرف الشك المنهجي على أنه "منهج" يتولى الفيلسوف، أو الباحث، تطبيقه وفرضه على ما يمتلكه من معلوماتٍ وأشكال معرفة، بمحض إرادته، وذلك لاختبارها، من أجل التخلص من الأضاليل، والمغالطات، والأكاذيب، وغيرها من الشوائب التي قد تكون في عقله، ويسعى الفيلسوف كذلك، من خلال الشك المنهجي إلى تدريب عقله على التحليل والنقد، حتى يغدو قادرًا على إقامة قضايا يقينية، اعتمادًا على مبادئ أولية مميزة وواضحة، يتوصل إليها عبر إجراء النقاشات بخصوص مبادئ أولية سابقة.[١][٢]


أسباب ظهور الشك المنهجي

يقف وراء ظهور الشك المنهجي عددٌ من الأسباب، والتي تشمل الآتي ذكره:[٣]

  • التأثر بالثقافة اليونانية التي ساهمت إلى حد بعيد توسيع الآفاق الفكرية.
  • الإيمان المُطلق بالعقل، والاعتماد عليه في وضع أسس وقواعد تساهم في تجنب الأخطاء.
  • السعي إلى اكتساب معرفة صادقة ويقين كامل، لا تشوبهما أي ريبة أو شك.
  • الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، واعتبار الشك المنهجي الوسيلة الوحيدة التي تُساهم في ذلك.


خصائص الشك المنهجي

بعد تبيان مفهوم وأسباب ظهور الشك المنهجي، نأتي إلى استعراض أبرز سماته وخصائصه، والتي تشمل ما يلي:[٤]

  • منهجي: يعتبر الشك المنهجي "منهجيًا" بطبيعته؛ لأنّ من يخوض به يتبناهُ كمنهجٍ خالصٍ للتفكير فقط، ولا يتباهُ كمذهبٍ يسير على خطاه في جميع جوانب حياته.
  • مؤقت: الشك المنهجي مؤقت؛ لأن دوره ينتهي عندما يحقق الفرد الذي يتبناه غايته، والتي تتمثل في التوصل إلى اليقين.
  • ليس غاية: الشك المنهجي ليس غاية يُطمح لتحقيقها؛ بل هو محض "وسيلة" مؤقتة يُهدف منها تحقيق غاية اليقين والوصول إليه.
  • التمحور حول اليقين: كما ذكرنا سابقًا، فإن الغاية الرئيسية من الشك المنهجي هي الوصول إلى اليقين، ولهذا، فإنّ الفيلسوف عندما يبدأ بالشك، فإنه ينتهي باليقين.
  • بنّاء: الشك المنهجي ليس هدامًا، بل هو بناء، باعتبار أنه يُشجع الفرد على التدقيق، والنظر، والبحث، وهو بهذا الشكل ينفع الفرد الذي يتبناه، ويساهم بما فيه خيرٌ للمجتمع والحضارة ككل.


الشك المنهجي عند الغزالي وديكارت

اتخذ كلٌ من الفيلسوف المسلم أبو حامد الغزالي، والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (بالفرنسية: René Descartes)، الشك المنهجي سبيلاً، ومنهجًا، للتفكير، وتمثل الأمر الذي دفعهما إلى تبنيه في أنّ كلاهما عاشا في أوقاتٍ ساد فيها ركودٌ فكري، وصراعاتٍ مذهبية وعقلية، وكان الفلاسفة آنذاك مُقيّدين فكريًا، واتبعوا بسبب ذلك "التقليد" في أفكارهم، ولكن كلاً من الغزالي وديكارت أدركا، على الرغم من الظروف المحيطة بهما، أهمية الاستقلال العقلي، وضرورة الوصول إليه، ووضع حدٍ للتقليد والتبعية الفكرية، وغيرها من المعضلات التي كانت سائدة، ومن هذا المنطلق، تبنى الغزالي وديكارت الشك المنهجي في المعارف التي تمّ تلقيها عن طريق التقليد؛ فالغزالي اعتبر أنّ الشك هو السبيل للوصول إلى الحقيقة، وأنّ الشك في المعارف التي فرضها التقليد الأعمى أمرٌ لا غنى عنه لحث العقل على النماء والتطور، في حين أنّ ديكارت هو الآخر أسس للشك المنهجي في الفلسفة الحديثة، واعتبر هو الآخر أنّ الشك أداةٌ لا يمكن التخلي عنها في رحلة الإنسان وبحثه عن الحقيقة، وشدد على أنّ الإنسان إذا ما أراد الوصول إلى الحقيقة، فإنّ عليه أن يشك في كل ما يعترض طريقه، ويصادفه خلال حياته، حتى ولو كان هذا الشك بهذه الأمور لمرة واحدة، وفي سياقٍ متصل، شبه كلٌ من الغزالي وديكارت المقلدين بالعميان غير المبصرين، الذين يعتمدون على الآخرين لإرشادهم في حياتهم.[٥][٦]


المراجع

  1. مصطفى محمد قصيبات، الشك واليقين عند ديكارت، صفحة 245. بتصرّف.
  2. مزاري مصطفى ، مصطفى.pdf الشك بين الغزالي وديكارت دراسة مقارنة، صفحة 17. بتصرّف.
  3. أحمد بن إبراهيم محمد سامه عسيري، الشــــك أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له، صفحة 165-180. بتصرّف.
  4. ماهر محمد عواد ، منهج الشك، صفحة 12-13.
  5. زينب بالخير، zineb.pdf طبيعة الشك عند الغزالي، صفحة 37-39. بتصرّف.
  6. الجامعة المستنصرية، نظرية المعرفة اختلف الباحثون,( الاتجاه العقلي، والاتجاه التجريبي - التأسيس الفلسفي لنظرية المعرفة، صفحة 1-8. بتصرّف.