ماهي الفلسفة الهلنستية؟

بدأت هذه المرحلة من الفلسفة اليونانية القديمة بعد أرسطو خلال فترة تاريخية تسمى الفلسفة الهلنستية (78-323 ق.م)، ومصطلح الهلنستية يعني"شبيه" باليونانية ويأتي من كلمة "هيلين" التي استخدمها الإغريق أنفسهم لوصف حضارتهم، وتشير على وجه التحديد إلى الثقافة اليونانية الفريدة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم القديم مع الحملات العسكرية للأسكندر الأكبر، بما في ذلك اللغة اليونانية والفن والدين والفلسفة.^[١] فانتشرت هذه الثقافة منذ وفاة الاسكندر وحتى الفتح الروماني، ثم امتدت رويدًا رويدًا من مصر مرورًا بسورية ووصولًا إلى روما واسبانيا، وامتدت أيضًا بالأوساط اليهودية المستنيرة، كما في أوساط الرومان، وكانت اللهجة الدارجة هي القونية من اللغة اليونانية وتعتبر من أهم الحقب في تاريخ الحضارة الغربية.^[٢]

الهلنستية والحضارة الإغريقية

كانت حصيلة القرن الرابع تغلغل تيار مثالي عظيم في الحضارة برمتها وصبغها بطابع فكر فلسفي، ومن ثم توقف وانتهى أمره في عقائد متبلورة، فأنكر الإنسان الثقافة، وركز في البحث عن ذاته، والاستمتاع المباشر بأحاسيسه وانطباعاته.^[٣] وبذلك ستعود العلوم المُستبعدة من الفلسفة لمضمارها، ومسيرتها وحياتها المستقلة، أما المذاهب الوثوقية الكبرى التي تتفرع تحت الفلسفة الهلنستية، كالرواقية والأبيقورية لا تشبه أيا من المذاهب التي سبقتها مهما تعددت نقاط الالتقاء فيما بينهما.

وثمة سمتان تطبعان هذة الروح بطابعهما: الأولى هي الإيمان باستحالة أن يهتدي الإنسان إلى قواعد للسلوك أو أن يصل للسعادة ما لم يستند إلى تصور متحدد بالعقل، وثانيهما هي الجنوح إلى انضباط مدرسي؛ فليس من واجب الفيلسوف الشاب أن يبحث في ما تم الوصول اليه من قبل؛ والعقل والمحاكمة العقلية ليس من شأنهما إلا أن يرسيا في عقله عقائد المدرسة ويقيماها على أسس راسخة لا تتزعزع.^[٤]

لقد بتت المذاهب الوثوقية الجديدة بحكم السمتين المميزتين لها، فلم تلقيا هاتان السمتان الجديدتان القبول إلا بعد مقاومة، فبقيت أثينا مركزًا للفلسفة، ولم يكن بين الفلاسفة الجدد أي فيلسوف إغريقي أو من البر اليوناني، فجميع الرواقيون المعروفين في القرن الثالث كانوا من الأغراب والدخلاء والأمصار المجاورة.

الهنلستية والفلسفة الرومانية

بعد الموت المفاجئ للإسكندر الأكبر عام 323 ق.م استمرت الإمبراطوريات الهلنستية لمئات السنين ونشرت الثقافة اليونانية على مناطق شاسعة، ومما ساعد في انتشار الهلنستية عدم محافظة البيئة السياسية والاجتماعية على الدوافع الإبداعية في الفكر الفلسفي، وشهدت هذه الفترة ظهور المدارس الثلاث الكبرى للفلسفة، وهي: الأبيقورية والرواقية والشك.^[٥]

الهلنستية والمعرفة بالرواقية القديمة

لا تتوافر لزينون وكريزيبوس إلا معرفة غير مباشرة؛ فمن تصانيف زينون الكثيرة ومن تأليف كريزيبوس الخمسة والسبعمائة، لم يبقى سوى بعض العناوين التي ذكرها ديوجينس اللايرتي، والمؤلفات الرواقية الموجودة تعود إلى عصر الامبراطورية، أي بعد مرور أربعة قرون على تأسيس الرواقية، ولا سبيل لإعادة بناء تعاليم الرواقية القديمة إلا بالبحث عن الآثار التي تخلفت منها لدى الكتاب الثلاثة، سينكا، وابقتاتوس، ومرقوس-أوراليوس، ولدى كتاب غيرهم، وهذا بمنتهى الصعوبة، لأن المصادر الرئيسيه تعود إلى عصر متأخر جدًا.

الهلنستية وأصول الرواقية

لا تزال نشأة الرواقية مسألة مبهمة، فالتوقع السائد أنه أخذ عن الميغاريين حب الجدل الجاف والمجرد الذي اتسمت به دروس الرواقية القديمة، ولقد عرف استلبون الميغاري خليفة أفلاطون، في ازدرائه للأحكام المسبقة ويدرج في عداد أولئك الذين بوأوا النفس اللامنفعلة مكانة الصدارة، أما الأكاديمي كزينوقراطس فقد غالى في دور الفضيلة حتى ظهرت له شرط للسعادة، كما أن بوليمونس يقدم نظير الكلبيين، في التعود على التربية الجدلية الخالصة، ويعرف الحياة المثلى أنها الحياة المطابقة للطبيعة.

الهلنستية والعقلانية الرواقية

أما الفلسفة فهي وعينا بعدم صمود أي شيء خارج نطاقه، فالفلسفة هي (علم الأشياء الإلهية والبشرية)، وتقصد جميع الكائنات العاقلة، وذلك ما دامت عليه الطبيعة مستوعبة هي نفسها في الأشياء الإلهية، بذلك تكون قد رسمت مهمتها سواء تعلق الأمر بالمنطق أم بالمعرفة أم بالاخلاق وعلم الطبيعة أم بعلم النفس. فأساس هذه المهمة في جميع الأحوال هي استبعاد اللامعقول ورؤية فعل العقل الخالص وحده، في الطبيعة كما في السلوك، وبالمقابل لا تنطوي الرواقية على أي منحى منهجي، لأن مبتغاها هو استبعاد المعطى المباشر والحسي، فليس هنالك تقدم يقود المحسوس إلى المعقول، لعدم وجود فارق بينهما.

الهلنستية ومنطق الرواقية القديمة

إن الشأن الأساسي لنظرية المعرفة هو إعادة اليقين إلى مضمار المحسوس والعلم الذي حرص أفلاطون على إبعاده عنه. فاليقين والحقيقة مقرهما داخل الإدراكات الحسية العادية، ولا يتطلبان أية صفة لا يتم توافرها في الإنسان العادي، وإن كان في جهلٍ مطبق، فالعلم لا يعود إلا إلى حكيم، ولكن لا يخرج من نطاق المحسوس، بل يبقى لصيق الإدراكات الحسية العادية التي هو لها تنسيقٌ وتنظيم. وتنبثق المعرفة وتنطلق من الصورة التي يتركها في النفس شيء واقعي أثر بها، وهذا أشبه ما يكون لدى زينون بذلك الذي يتركه أو يطبعه أثر خاتم في الشمع، فالإحساس هو فعل عقلي متمايز أشد تمايزًا عن التصور أو التخيل.

الهلنستية وطبيعيات الرواقية القديمة

إن الهدف الذي ترمي إليه الطبيعيات الرواقية يصور لنا أن الخيال يهيمن على العقل بشكل تام، وبعدم وجود اللاعقلانية، فهذه الطبيعيات لا تفسح مجالًا للمصادفة أو الفوضى، كما الحال لدى أرسطو وأفلاطون، فبكل شيء مكانة في النظام الكلي، وأما الحركة والتغير والزمان فليست بدلالة على عدم الكمال أو نقص في الوجود، كما هو الحال لدى المهندس الرياضي أفلاطون وعالم الأحياء أرسطو، لأن العالم دائم التغير والتحرك، فالحركة في كل أوقاتها فعل وليست انتقال إلى الفعل، وأن الزمان مثل المكان، بلا جوهر وبلا ماهية، ما دام الوجود لا يتغير ولا يدوم، إلا أنه يفعل أو ينفعل بالاعتماد على قوته الباطنة وحدها، ولا وجود بالتالي لدى الرواقيين لأي استعداد، خلافًا لأرسطو وورثة أفلاطون، لإعلان قِدم العالم بغية إنقاذ كماله، فعالم الرواقيين يحدث ويضمحل دون أن تشوبه شائبة.